{طه} فخّمهما قالونُ وابنُ كثير وابنُ عامر وحفصٌ ويعقوبُ على الأصل، والطاءَ وحده أبو عمْرو وورْشٌ لاستعلائه وأمالَهما الباقون، وهو من الفواتح التي يُصدّر بها السورُ الكريمةُ وعليه جمهورُ المتْقنين. وقيل: معناه يا رجلُ وهو مرويٌّ عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن ومجاهدٍ وسعيدِ بنِ جُبير وقَتادةَ وعِكرِمةَ والكلبي، إلا أنه عند سعيدٍ على اللغة النبْطية وعند قتادة على السُّريانية وعند عكرمة على الحبشية وعند الكلبي على لغة عكّ، وقيل: عُكْل وهي لغة يمانيةٌ، قالوا: إن صح فلعل أصلَه يا هذا فتصرّفوا فيه بقلب الياء طاءً وحذفِ ذا من هذا، وما استُشهد به من قول الشاعر:إن السَّفاهَةَ طاها في خلائِقِكُم *** لا قدّس الله أخلاقَ الملاعينِليس بنص في ذلك لجواز كونِه قسماً كما في حم لا يُنْصرون، وقد جوز أن يكون الأصلُ طَأْها بصيغة الأمر من الوطء فقُبلت الهمزةُ في يطأُ ألفاً لانفتاح ما قبلها كما في قول مَنْ قال: لا هَناك المرتُع، وها ضميرُ الأرض على أنه خطابٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يطأ الأرضَ بقدميه لمّا كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه مبالغةً في المجاهدة، ولكن يأباه كتابتُهما على صورة الحرف، كما تأبى التفسيرَ بيا رجلُ فإن الكتابةَ على صورة الحرف مع كون التلفظِ بخلافه من خصائص حروفِ المُعجم، وقرئ إما على أن أصلَه طَأْ فقلبت همزتُه هاءً كما في أمثال هَرَقتَ أو قلبت الهمزة في يطأ ألفاً كما مر، ثم بُني منه الأمر وألحق به هاءُ السكت وإما على أنه اكتُفي في التلفظ بشطْري الاسمين وأُقيما مُقامَهما في الدِلالة على المسمَّيين فكأنهما اسماهما الدالان عليها. وعلى هذا ينبغي أن يحمل قولُ من قال: أو اكتفى بشطري الكلمتين وعبّر عنهما باسمهما وإلا فالشطران لم يذكرا من حيث إنهما مسمَّيان لاسمَيهما ليقعا معبَّراً عنهما، بل من حيث إنهما جزءان لهما قد اكتُفيَ بذكرهما عن ذكرهما ولذلك وقع التلفظُ بأنفسهما لا باسميهما بأن يراد بضمير التثنية في الموضعين الشطران من حيث هما جزآنِ للاسمين، ويراد باسمهما الشطران من حيث هما قائمان مقامَ الاسمين فالمعنى اكتُفي في التلفظ بشطري الكلمتين أي الاسمين فعبّر عنهما أي عن الشطرين من حيث هما مسمَّيان بهما من حيث هما قائمان مقامَ الاسمين، وأما حملُه على معنى أنه اكتُفي في الكتابة بشطري الكلمتين يعني طا على تقديري كونِه أمراً وكونِه حرفَ نداء، وها على تقديري كونِها كنايةً عن الأرض وكونِها حرفَ تنبيهٍ وعُدل عن ذينك الشطرين في التلفظ باسمهما تبيّن البُطلانُ كيف و(طا) و(ها) على ما ذكر من التقادير ليسا باسمين للحرفين المذكورين، بل الأولُ أمرٌ أو حرفُ نداء والثاني ضميرُ الأرض أو حرفُ تنبيهٍ، على أن كتابةَ صورةِ الحرف والتلفظَ بغيره من خواصّ حروفِ المعجم كما مر، فالحق ما سلف من أنها من الفواتح إما مسرودةٌ على نمط التعديدِ بأحد الوجهين المذكورين في مطلع سورة البقرة فلا محلَّ لها من الإعراب وكذا ما بعدها من قوله تعالى: {مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى} فإنه استئنافٌ مَسوقٌ لتسليته عليه الصلاة والسلام عما كان يعتريه من جهة المشركين من التعب، فإن الشقاءَ شائعٌ في ذلك المعنى ومنه أشقى من رائض مُهْرٍ أي ما أنزلناه عليك لتتعبَ بالمبالغة في مكابدة الشدائد في مقاولة العُتاةِ ومحاورة الطغاةِ وفرْطِ التأسّف على كفرهم به والتحسرّ على أن يؤمنوا كقوله عز وجل: {فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ على ءاثارهم} الآية، بل للتبليغ والتذكير وقد فعلتَ فلا عليك إن لم يؤمنوا به بعد ذلك، أو لصرفه عليه الصلاة والسلام عما كان عليه من المبالغة في المجاهدة في العبادة، كما يروى أنه عليه الصلاة والسلام كان يقوم بالليل حتى ترم قدماه، فقال له جبريلُ عليه السلام: أَبْقِ على نفسك فإن لها عليك حقاً، أي ما أنزلناه عليك لتتعب بنهك نفسِك وحملِها على الرياضات الشاقةِ والشدائدِ الفادحة وما بُعثت إلا بالحنيفية السمحة، وقيل: إن أبا جهل والنضْرَ بنَ الحارث قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك شقيٌّ حيث تركت دينَ آبائِك وإن القرآنَ نزل عليك لتشقى به، فرُدّ ذلك بأنا ما أنزلناه عليك لِما قالوا، والأولُ هو الأنسبُ كما يشهد به الاستثناء الآتي.هذا، وإما اسمٌ للقرآن محلُّه الرفعُ على أنه مبتدأٌ وما بعده خبرُه، والقرآنُ ظاهرٌ أوقع موقعَ العائد إلى المبتدأ كأنه قيل: القرآنُ ما أنزلناه عليك لتشقى، أو النصبُ على إضمار فعلِ القسم أو الجرُّ بتقدير حرفِه وما بعده جوابُه، وعلى هذين الوجهين يجوز أن يكون اسماً للسورة أيضاً بخلاف الوجهِ الأول فإنه لا يتسنى على ذلك التقدير لكن لا لأن المبتدأ يبقى حينئذ بلا عائد ولا قائم مَقامَه، فإن القرآنَ صادقٌ على الصورة لا محالة إما بطريق الاتحاد بأن يراد به القدْرُ المشترَكُ بين الكل والبعض، أو باعتبار الاندراجِ إن أريد به الكلُّ، بل لأن نفيَ كونِ إنزالِه للشقاء يستدعي سبقَ وقوعِه الشقاء مترتباً على إنزاله قطعاً إما بحسب الحقيقة كما لو أريد به معنى التعب أو بجسب زعْم الكفرةِ كما لو أريد به ضدُّ السعادة، ولا ريب في أن ذلك إنما يُتصور في إنزال ما أُنزل من قبل، وأما إنزالُ السورةِ الكريمة فليس مما يمكن ترتبُ الشقاءِ السابق عليه حتى يُتصدّى لنفيه عنه. أما باعتبار الاتحادِ فظاهرٌ وأما باعتبار الأندارجِ فلأن مآلَه أن يقال: هذه السورةُ ما أنزلنا القرآنَ المشتمِلَ عليها لتشقى، ولا يخفى أن جعْلَها مُخبَراً عنها مع أنه لا دخلَ لإنزالها في الشقاء السابق أصلاً مما لا يليق بشأن التنزيلِ الجليل وقوله تعالى: {إِلاَّ تَذْكِرَةً} نُصب على أنه مفعولٌ له لأنزلنا لكن لا من حيث أنه معللٌ بالشقاء على معنى ما أنزلنا عليك القرآنَ لتتعب بتبليغه إلا تذكرةً.. الآية، كقولك: ما ضربتُك للتأديب إلا إشفاقاً لما أنه يجب في أمثاله أن يكون بين العلتين ملابسةٌ بالسببية والمسبَّبية حتماً كما في المثال المذكور، وفي قولك: ما شافهتُك بالسوء لتتأذّى إلا زجراً لغيرك فإن التأديبَ في الأول مسبَّبٌ عن الإشفاق والتأذّي في الثاني سببٌ لزجر الغير، وقد عرفت ما بين الشقاءِ والتذكرةِ من التنافي ولا يُجدي أن يراد به التعبُ في الجملة المجامِعُ للتذكرة لظهور أن لا ملابسةَ بينهما بما ذكر من السببية والمسببية وإنما يتصور ذلك أن لو قيل مكانَ إلا تذكرةً: إلا تكثيراً لثوابك فإن الأجر بقدر التعب، ولا من حيث أنه بدلٌ من محل لتشقى كما في قوله تعالى: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} لوجوب المجانسةِ بين البدلين وقد عرفتَ حالَهما، بل من حيث إنه معطوفٌ عليه بحسب المعنى بعد نفيه بطريق الاستدراكِ المستفادِ من الاستثناء المنقطعِ، كأنه قيل: ما أنزلنا عليك القرآنَ لتتعب في تبليغه ولكن تذكرةً {لّمَن يخشى} وقد جرد التذكرة عن اللام لكونها فعلاً لفاعل الفعل المعلّل، أي لمن شأنُه أن يخشى الله عز وعلا ويتأثرَ بالإنذار لرقة قلبه ولينِ عَريكتِه أو لمن علم الله تعالى أنه يخشى بالتخويف، وتخصيصُها بهم مع عموم التذكرة والتبليغ لأنهم المنتفعون بها.